العدل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
law.tvh

العدل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

العدل في حياة النبي عليه الصلاة والسلام
بقلم : أ.د. عبد الحليم منصور
أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر
من المعلوم لدى المسلمين أن النبي عليه الصلاة والسلام جاء برسالة تؤسس للعدالة بين البشر ، مسلمين وغير مسلمين ، على اختلاف درجات العدل سواء أكان في الكتابة ، أو القول ، أو الحكم بين الناس والفصل في المنازعات لذا فإن الشريعة – كما يقول ابن القيم - مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي: عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل .
ومن يتتبع نصوص الشرع الحنيف يجد أن العدل الذي جاء به الوحي على لسان النبي يتناول كل أوجه النشاط الإنساني ففي مجال كتابة الديون وإملائها يقول الحق سبحانه وتعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ " البقرة : (282) وفي هذا دعوة إلى عدم حيف الكاتب أو جوره ، وكذا عدم حيف الولي وظلمه في الإملاء .
وفي مجال الفصل في الخصومات بين الناس يأمر الحق سبحانه وتعالى القضاة أن يفصلوا بين الناس بالعدل بغض النظر عن الدين ، أو الجنس ، أو المعتقد ، قال تعالى
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " النحل : (90) ويقول عز وجل :"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا " النساء : (58) ولفظة الناس الواردة في الآية تعم جميع المواطنين في المجتمع ، حيث يجب على الحاكم أو ولي الأمر وكذا القاضي أن يسوي بين الجميع ، أو يقضي بينهم بالحق والعدل ، يؤيد هذا في التطبيق العملي في حياة النبي عليه الصلاة والسلام ما حدث عندما سرق رجل من المسلمين من إحدى قبائل الأنصار من بني أبيرق بن ظفر بن الحارث، وكان اسمه في رواية: «طعمة بن أبيرق»، وفي رواية أخرى: «بشير بن أُبيرق»، وكان هذا الرجل قد سرق درعًا من جارٍ له مسلم يقال له: «قتادة بن النعمان»، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له: «زيد بن السمين»، فالتُمِسَتِ الدرع عند «طعمة» فحلف بالله ما أخذها، فقال أصحاب الدرع: لقد رأينا أثر الدقيق في داخل داره. فلما حلف تركوه، واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي، فوجدوا الدرع عنده، فقال اليهودي: دفعها إليَّ طعمة بن أُبيرق!! فجاء بنو ظفر -وهم قوم طعمة- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم، فهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاقب اليهودي،
ولقد اعتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ السارق هو اليهودي في باديء الأمر لوجود القرائن ضده، ولكن الوحي نزل بخلاف ذلك؛ فلم يكتم صلى الله عليه وسلم شيئًا -وحاشاه- بل قام وأعلن بوضوح وصراحة أنَّ اليهودي بريء، وأن السارق مسلم!! وينزل الخطاب القرآني بلهجة شديدة القوة لتعلي من قيمة العدل والحق والإنصاف وإن كان لمواطن على خلاف العقيدة ، وتعطي الحق لغير المسلم ، لتبقى راية الإسلام خفاقة لا تنظر إلى الأفراد ، وإنما تنظر إلى إقامة الحق والعدل إلى قيام الساعة .
قال تعالى :" إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) الآيات من سورة النساء .
ومن جوانب العدل في القرآن الكريم ، العدل في القول ، والشهادة قال تعالى :" وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " الأنعام : (152)
ومن جوانب العدل الذي جاء على لسان النبي عليه الصلاة والسلام إنصاف الإنسان لغيره حتى من نفسه أو أحد أبويه أو بنيه ، قال تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا " النساء : (135)
ولما كان العدل صفة عظيمة في القرآن الكريم لم يسو النبي بين القائم على العدل الناطق به آمرا لغيره بترسيخ معانيه ، وبين غيره ممن لا يستطيع الإبانة عنه ، قال تعالى :" وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " النحل : (76)
ولما كانت القبائل ، أو المجتمعات ، عرضة لأن تنال منها الخلافات والنزاعات ، أمر الله عز وجل مجموع المسلمين ، عن طريق رؤسائهم أن يصلحوا بين المتقاتلين بالعدل والقسط ، دون نظر إلى اللون أو الجنس ، أو العقيدة ، قال تعالى :"وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " الحجرات : (9)
ولقد جاءت السنة النبوية على لسان الحبيب عليه الصلاة والسلام مؤكدة على وجوب ترسيخ جوانب العدل في المجتمعات وفي هذا يقول النبي  قال : هل تدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وإذا حكموا للمسلمين حكموا كحكمهم لأنفسهم . وفي الحديث الصحيح :" سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه : الإمام العادل..... "
وقال عليه الصلاة والسلام : المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين . وقد روي عن ابن مسعود أنه قال : لأن أجلس قاضيا بين اثنين أحب إلي من عبادة سبعين سنة ، ومراده أنه إذا قضى يوما بالحق كان أفضل من عبادة سبعين سنة ، فلذلك كان العدل بين الناس من أفضل أعمال البر ، وأعلى درجات الأجر ، قال تعالى : " وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " المائدة : (42)" فأي شرف أشرف من محبة الله تعالى .
ولقد عمل النبي جاهدا على ترسيخ جوانب العدل في حياة الأمة فكان يعلم أصحابه أمر القضاء ، وكيفية الحكم بالعدل ، ترغيبا ، وتعليما فعن عقبة بن عامر قال : جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله  فقال : اقض بينهما قلت : أنت أولى بذلك ، قال : وإن كان قلت : علام أقضي ؟ قال : اقض فإن أصبت فلك عشرة أجور ، وإن أخطأت فلك أجر واحد .
وروى البيهقي :" إذا جلس الحاكم للحكم ، بعث الله له ملكين يسددانه ويوفقانه ، فإن عدل أقاما ، وإن جار عرجا وتركاه " قال ابن مسروق : لأن أحكم يوما بحق ، أحب إلي من أن أغزو سنة في سبيل الله .
ومما يؤكد أن الإسلام يعمل على ترسيخ مفاهيم العدل بين مواطنيه قولا وعملا ما ورد "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يُعدِّل به القوم، فمرَّ بسواد بن غزيَّة حليف بني عدي ابن النجار قال: وهو خارج من الصف، فطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقدح في بطنه، وقال: «استوِ يا سواد». فقال: يا رسول الله، أوجعتني، وقد بعثك الله بالعدل، فأقدني. قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استقد». قال: يا رسول الله، إنَّك طعنتني، وليس عليَّ قميص. قال: فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: «استقد»، قال: فاعتنقه، وقبَّل بطنه، وقال: «ما حملك على هذا يا سواد؟». قال: يا رسول الله، حضرني ما ترى، ولم آمن القتل، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم له بخير"
ومما يرسخ مفاهيم المساواة بين المواطنين ، وإقامة العدل بينهم ، سواء كانوا من الشرفاء أم من غيرهم ما روي عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: "أنَّ قريشًا أهمَّهم شأن المرأة التي سَرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلِّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟!». فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال «أما بعد: فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني -والذي نفسي بيده- لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"
وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قد أمر بالعدل في شتى جوانب الحياة ، وطبقى تطبيقا عمليا على نفسه ، فإنه ورثه الصحابة حتى ألفوه وطبقوه على أنفسهم ومما يؤكد ذلك ما روي عن إبراهيم بن يزيد التيمي ، عن أبيه ، قال :وجد علي بن أبي طالب درعاً له عند يهودي التقطها فـعـرفـهـا فقال : درعي سقطت عن جمل لي أورق . فقال اليهودي. درعي وفي يدي ، ثم قال له اليهودي :بيني وبينك قاضي المسلمين ، فأتوا شريحاً ، فقال شريح : ما تشاء يا أمير المؤمنين ؟ قال : درعي سقطت عن جمل أورق ، والتقطها هذا اليهودي . فقال شريح ما تقول يا يهودي؟ قال درعي وفي يدي. فقال شريح : .. لابد من شاهدين ، فدعى قنبراً مولاه ، والحسن بن علي وشهدا : إنهما لدرعه. فقال شريح : أما شهادة مولاك فقد أجزناها، أما شهادة ابنك لك فلا نجيزها . وهنا يمثتل خليفة المسلمين إلى حكم قاضية ثم يقول لليهودي: خذ درعك . فقال اليهودي: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين، فقضى عليه ورضي، صدقت -والله- يا أمير المؤمنين إنها لدرعك سقطت عن جمل لك التقطتها ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فوهبها له علي، وأجازه بتسعمائة .
من خلال ما تقدم يتضح بجلاء أن العدل بكل مفرداته ركن ركين في الإسلام أسس له الرسول عليه الصلاة والسلام قولا من خلال الوحي بنوعية القرآن والسنة ، وفعلا من خلال الممارسات العملية التي طبقها النبي عليه الصلاة والسلام ، ولم يفرق فيها في أمر القضاء والفصل في المنازعات بين مسلم وغير مسلم ، وورث هذا صحابته من بعده .
ألا ما أحوجنا أن نفهم العدل بكل مفرداته ، وأن نطبقه في حياتنا بشكل صحيح ، وأن ننصف الناس من أنفسنا ، وأهلينا ، حتى تنعم المجتمعات الحديثة بالاستقرار ، وتنهض بالعدل ، ويعلو شأنها بالعمل والإنتاج ، والحفاظ على تراب الأوطان ومقدساتها ، والدفاع عنها بكل غال ونفيس .

الموضوع السابق ضم 14 مجلة علمية تصدر من جامعة الأزهر لمؤسسة دولية أمريكية
الموضوع التالي استراتيجيات التدريس والتعلم داخل الكلية
طباعة
55602 Rate this article:
2.5

Please login or register to post comments.

x

اتصل بنا

تليفون : 0504734465

فاكس : 0504734465

العنوان : تفهنا الاشراف - مركز ميت غمر - دقهلية - طريق ميت غمر الزقازيق

 

 

Copyright 2024 by Al-Azhar Al-Sharif Terms Of Use Privacy Statement
Back To Top