Language
Menu




رسول الإنسانية وإراقة الدماء!

د. سامي عبد العظيم العوضي

  • 02 يناير, 2018
رسول الإنسانية وإراقة الدماء!

كانت آخر خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الوداع ، ولعل هذه الخطبة كانت أبلغ خطب رسول الله على الإطلاق فكانت خطبة جامعة مانعة ماتعة أرسى فيها رسول الله قواعد الحق والعدل والخير، ووضح فيها صلى الله عليه وسلم أمورًا عديدة، فكانت بحق دستورًا عالميًا وميثاقًا إنسانيًا يصلح لقيادة العالم بأسره، فماذا جاء في هذه الخطبة العصماء ؟ دعني أيها القارئ الكريم أسوق إليك بعض فقراتها؟

"أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير . أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس إنَّ دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها" .

"أما بعد: أيها الناس إنَّ ربكم واحد وإنَّ أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى والعمل الصالح ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد قالوا : نعم قال : فليبلغ الشاهد منكم الغائب ".

والملاحظ في هذه الخطبة أنَّ أول شيئ تكلم رسول الله عنه هو حفظ الدماء وعدم إراقتها، وعدَّ صلى الله عليه وسلم ذلك من المحرمات التي لا ينبغي لمسلم بحال من الأحوال أن يتخطاها أو يتهاون في أمرها، ولو أنَّ المسلمين في شتى بقاع الأرض اتَّبعوا المنهج النبوي ما وصلوا إلى هذا التردي السحيق، فمخالفة المنهج تستوجب العقاب الإلهي الذي لا يتخلف ولا يحيد ( فأهلكناهم بذنوبهم وأنشانا من بعدهم قرنا آخرين) سورة الأنعام آية 6.

إنَّ المصائب تترى عنما يفرط الإنسان في ما يجب عليه، والمشكلات تتوالى عندما يذهل المسلم عن الأصلين الواضحين الكتاب والسنة، فحوادث السيارات تحدث عندما يتجاوز المرء السرعات المقررة أو أن يتوقف بسيارته بشكل مفاجئ أو حتى من خروجه عن المسار المحدد له أو عدم التزامه بشارات المرور، ولو اتَّبع الناس التعاليم السماوية لوقاهم الله سيئات ما مكروا ولكن خالفوا فحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن. صحيح أنَّ هناك اقدارًا قاهرة تواجه الإنسان بما ليس في الحسبان وتفاجؤه بما لم يتوقع، لكن حسبه في هذه الحالة أن يعتصم بحبل الله المتين متسلحًا بسلاح الصبر الذي يقوده في النهاية إلى الرضا والتسليم .

إنَّ مشكلات العالم بأسره تنشأ في غياب الإيمان الصحيح والاستهداء بنور الله والأخذ بإشارات المرور الحمراء والخضراء في كتاب الله، وهي مشكلات في الغالب الأعم من صنع الإنسان ماذا على أهل الأديان جميعًا لو أنهم وضعوا نصب أعينهم الآية الكريمة وطبقوها تطبيقًا عمليًا في حياتهم؟ ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إنَّ كثيرًا منهم بعذ ذلك في الأرض لمسرفون ) سورة المائدة آية 32.

لقد احترم رسول الله النفس الإنسانية أيًا كان دينها ولونها، فأكرم الناس عند الله أتقاهم ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح؛ احترم صلى الله عليه وسلم آدمية الإنسان أيًا كان انتماؤه العقدي أو الديني، تمر عليه جنازة رجل يهودي فيقوم لها إجلالاً واحترامًا، فينبهه الحاضرون على أنًّها جنازة يهودي وكأنهم استكثروا عليها قيام رسول الله لها، فيردهم صلى الله عليه وسلم بأدب رفيع متساميًا على كل تلك الاختلافات العقدية محلقاً في أجواء من الارتقاء والجلال والسمو والكمال قائلاً: أو ليست نفسا ؟ .

ولم ينس صلى الله عليه وسلم أن يصوغ كمًا هائلاً من الأحاديث التي تؤكد على حرمة الدماء، نسوق بعضًا منها :

1.      عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ".

2.      عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إِلاَ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا أَوْ مُؤْمِنًا قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا".

3.      وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا فَاغْتَبَطَ بِقَتْلِهِ لَمْ يَقْبَلِ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً".

وفي حرمة دماء أهل الذمة - وهم من لهم عقد أمان داخل الدولة المسلمة من غير المسلمين - نراه يقول: "من قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عامًا".

4.       وأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنَّ المسلم لايزال في بحبوحة من العيش مالم يصب دمًا حرامًا، وعدَّ استحلال الدماء من المآزق والورطات التي لا مخرج منها، فيقول : -- النبى صلى الله عليه وسلم:" إنَّ من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله".

ومع إشراقة هذه الأحاديث ونصوع دلالاتها ونضج المراد منها إلا أنَّ فئة من شراذم الخلق وشذاذ الأفاق أبت إنسانيتها أن تنساق لمثل هذه التعاليم السامية والقيم الرشيدة، فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً، فراحوا يقتلون المسلمين الوادعين والمصلين المؤمنين بغير جرم اقترفوه أو إثم ارتكبوه، ولا أظن أنَّ من نطق بكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله يمكن أن يتورط في مثل هذه الجريمة البشعة وهذا التصرف الجبان.

إنَّ القلق الشديد الذي تخوض غماره الإنسانية كلها يكمن في بعدهم عن منهج محمد بن عبد الله، فحرصهم على الدنيا والتكالب عليها جعلهم يركضون وراءها لاهثين من أجل اغتنام شيئ من حطامها الفاني ومتاعها الزائل، وهم في ركضهم هذا يدوسون كل القيم ويطأون مكارم الأخلاق ويسحقون الضعفة من عباد الله؛ بم تفسر أيها القارىء الكريم ما يحدث في دول العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا من اقتتال؟ لماذا يقتتلون؟ وعلى أي شيئ يتزاحمون ؟

إنَّه من العار على الدول الكبرى المليئة بكل مباهج الحياة أن تستكثر خيرًا أفاء الله به على دول صغار، فراحوا يزاحمونهم في تلك الخيرات محاولين اجتثاث شأفتهم من أجل هذه الكنوز الدفينة التي أوجدها الله في بلادهم، وراحوا يتدخلون في شئونها ويقومون بتأليب أهلها بعضهم على بعض حتى يفوزوا بهذا النعيم كأنهم وحدهم عباد الله وما دونهم فراخ ونعاج . ومن المؤسف أنهم لا يتمكنون من الرؤية الصائبة فهم يعيشون في ضباب الأنانية النزقة والطيش الأحمق فيحاولون السطو على ما في أيدي عباد الله وقد نسيت هذه الدول الكبرى أو تناست أنَّ الذي أفاء الله به عليهم من الآلاء والنعيم من الممكن أن يصبح أدرج الرياح ( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورًا فمن يأتيكم بماء معين ) سورة الملك الآية رقم 30.

شيئ مؤسف حقاً أن يتوارى إحساس البشرية بفضل الله الذي يعمهم به ليل نهار ثم يجأر الجميع بالشكوى، فهناك أبجديات للإيمان لو وضعها الجميع نصب أعينهم لزالت كل المشاكل وتوارت كل الصعاب ولكن غرور البشر هو السبب في كل ما حل بهم من نكبات؛ وصدق الله العظيم حيث يقول ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا بركات من السماء ولأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) سورة الأعراف آية رقم96.

طباعة
أبواب: مقالات
Tags:
Rate this article:
لا تقييم

Please login or register to post comments.

x

Copyright 2024 by Al-Azhar Al-Sharif Terms Of Use Privacy Statement
Back To Top